التصنيفاتالاقتصادالبنوك المركزية

السياسات الحكومية وتوزيع الثروات

 مع الاختفاء التدريجي للطبقة الوسطى في الكثير من الدول المتقدمة ــ وخصوصاً الولايات المتحدة ــ والاختلال الواضح في توزيع الدخل والثروات، بدأ البعض يشير بأصابع الاتهام إلى السياسات الحكومية بشقّيها النقدي والمالي، فهل تساهم البنوك المركزية عن طريق سياساتها النقدية ــ عرض النقد ومعدل الفائدة ــ في ترسيخ الطبقيّة؟ وهل يساهم وزراء المالية عن طريق السياسة المالية للدولة ــ الإنفاق الحكومي ومعدل الضرائب ــ في زيادة الفجوات في الدخل بين طبقات المجتمع؟ سواء كانت الإجابة بنعم أو لا، يجب التجرّد من العواطف عند مناقشة الأمر، فلن أتطرّق إلى نوايا المشرّع والجهات الحكومية، وإنما التأثيرات الاقتصادية البحتة لتلك السياسات، وذلك لإيماني التام بأن القرارات الاقتصادية الإصلاحية غالباً ما تكون مكلفة في بادئ الأمر، فتخلق آثاراً اقتصادية سلبية على المدى القصير، ولكن ــ في الغالب ــ تجني ثمارها على المدى الطويل لتعوّض الاقتصاد خسائره التي تكبّدها في الفترة السابقة، فهذه النظرة التي يجب أن يمتلكها أي مشرع عند اتخاذ أية قرار. بالطبع، تختلف التعريفات الاجتماعية للطبقة الوسطى باختلاف طبيعة المجتمع، ولكنها ــ إحصائياً ــ الطبقة التي تقع في المئين الإحصائي الـ20 إلى 80، أو تلك التي تجني ما بين 67% إلى 200% كنسبة من الوسيط الإحصائي لمستويات الدخل في الدولة.

 بالنسبة للبنوك المركزية، غالباً ما يكون القطاع المالي ــ البنوك والشركات ــ المستفيد الأكبر من السياسات والبرامج الإصلاحية التي تتبعها البنوك المركزية، وهنا تقع المعضلة الأساسية، فعلى سبيل المثال، عندما تقوم البنوك المركزية بإطلاق برامج التيسير الكمّي، فهي تقوم بشراء كميّات معينة من الأصول، مما يركّز المنافع الاقتصادية في قطاع واحد فقط وهو القطاع المالي، والذي قد يقتصر على شريحة معيّنة من المجتمع دون باقي الشرائح ــ وخصوصاً شريحة ذوي الدخل المحدود ــ، مما قد يساهم في حل المشاكل الاقتصادية “البحتة” في جهة، مقابل خلق مشاكل اجتماعية في ذات الوقت بالنسبة لباقي شرائح المجتمع. لإعطاء صورة أوضح، قفزت كميّات الأصول في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي في عهد بن برنانكي من 800 مليون دولار، إلى أكثر من 4 تريليون دولار بعد الأزمة المالية العالمية عندما أطلق بن برنانكي برنامج تيسير كمي أسطوري لانتشال الاقتصاد الأمريكي من الأزمة. في المقال التالي، توصّل الكُتّاب لنتيجة منطقية ــ وقد لا تكون مُفاجئة أبداً ــ عندما وثّقوا العلاقة بين التغييرات في السياسات النقدية للبنوك والمركزية وأثرها على فئات الدخل المختلفة في المجتمع، بحيث كان المتضرر الأكبر هي فئة الدخل المحدود، كما هو موضّح في الرسم التالي، لاحظ الخط الأزرق المتصّل، فهو يمثل الفئة ذات الدخل الأقل في المجتمع، والتي تضررّت بشكل ملاحظ عندما تكون التغييرات “سلبية” للسياسة النقدية، كرفع معدلات الفائدة على سبيل المثال، وفي المقابل أيضاً، هي الفئة التي تحقق أقل معدلات الاستفادة عندما تكون التغييرات “إيجابية” للسياسة النقدية، كاتبّاع السياسات النقدية التوسعيّة مثلاً.

 

 

لاحظ أيضاً في الرسم البياني التالي الأثر المباشر للتغييرات ــ أو الصدمات ــ في السياسة النقدية على ثروات أفراد المجتمع، بحيث يمثل الخط الأسود الفئات ذات الدخل الأقل، بينما الخط الأزرق يمثل الفئات ذات الدخل الأعلى:

 

 

لذلك، دائماً ما يُقال بأن السياسات النقدية التوسعيّة تجعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقراً. فعندما تقوم البنوك المركزية بالدفع بمعدلات الفائدة إلى مستويات منخفضة تصل إلى أقل من الصفر ــ في الاتجاه السالب ــ، تصبح البنوك الكبرى هي الجهة الأكثر استفادة من تلك القرارات، لأنها ببساطة تحصل على أموال “مجانيّة” لتقرضها للمستهلكين مقابل أرباح وفوائد. في المقابل أيضاً، تخلق تلك السياسات أسعاراً “وهمية” للأصول إن صح التعبير، فكما يعلم الجميع، عندما يتم تقييم الأصول، يتم الاستناد إلى معدلات الفائدة وفق نماذج الخصم المبنية على التدفقات النقدية المستقبلية، والتي غالباً تتحرك عكسياً مع معدلات الفائدة، مما يدفع بأسعار الأصول إلى معدلّات زائفة لا تعكس القيمة الحقيقية للأصل، والذي قد يساهم في خلق فقاعات في الأسواق المالية، تهدد ثروات المتداولين بشكل مباشر، وقد سبق أن تطرّقت لهذه الجزئية في المقال السابق. أنصح بقراءة الورقة التالية والتي توثّق دور السياسات النقدية التوسعيّة في تقليل الاختلال في توزيع الثروات، وخلق بيئة أكثر اتزاناً.

أما بالنسبة للسياسة المالية للدولة، يلعب الإنفاق الحكومي دوراً أساسياً في تقليل (أو زيادة) الفجوات في توزيع الدخل والثروات، فآلية الإنفاق الحكومي تحدد بشكل أساسي بيئة الأعمال داخل الدولة، عن طريق الشفافية في طرح المناقصات الحكومية مثلاً، وتنشيط ودعم المشاريع الصغيرة عن طريق إنشاء حاضنات حكومية تركّز بشكل أساسي على فئات الدخل المتوسط والمحدود، كما يمكن للحكومات أيضاً زيادة الإنفاق على التعليم في الدولة، فالأجيال التي تحظى بتعليم أفضل ستحصل على شهادات أعلى، مما قد ينعكس على رواتبها في المستقبل، وبالتالي يقل الاختلال في توزيع الدخل على المدى الطويل. وكذلك هو الحال بالنسبة لمعدلات الضرائب، فالنظام الضريبي الغير المتدرج والقائم على نسب ضريبة ثابتة يزيد من الاختلال في توزيع الدخل، والعكس صحيح. للمهتمين، أنصح بقراءة التقرير المفصّل لصندوق النقد الدولي حول العلاقة بين السياسات المالية والاختلال في توزيع الدخل والثروات، حيث قام الصندوق بتقسيم التقرير بناء على حجم الاقتصاد ومدى تطورّه.

 لعل الكساد الاقتصادي هو التحدي الأكبر أمام الحكومات في خلق بيئات أكثر عدالة، فغالباً يطغى على برامج الإصلاح الحكومية طابع الشمولية، فهي لا تركّز على طبقة دون أخرى، بل على اقتصاد الدولة بشكل عام، وهو الذي قد يخلق تناقضاً أخلاقياً، فلا تستطيع الحكومات أن تنقذ فئة دون أخرى، ولكن في المقابل، في أوقات الأزمات الاقتصادية، تتضرر فئات بصورة أكبر ــ وبالذات فئة الدخل المحدود ــ من الفئات الأخرى، وهو ما قد يساهم في تبرير برامج الإنقاذ التي تتركز على فئة دون أخرى في المجتمع.

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.