التصنيفاتالاقتصاد

المؤشر الاقتصادي المثالي

 قد لا يختلف أحد على أهمية الناتج الأجمالي المحلي كمؤشر اقتصادي أساسي يختصر المشهد الاقتصادي للدول ــ سواء كمعدل نمو أو كمعدل نصيب الفرد من الناتج ــ، فقد أخذ هذا المؤشر حيزاً كبيراً من الاهتمام منذ أكثر من ثلاثة قرون عندما وضع وليام بيتي الأساسات التي تم بناء المؤشر عليها ما بين عامي ١٦٥٢ و١٦٧٤م قبل أن يظهر المؤشر بشكل رسمي في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن، بعد مرور أكثر من نصف قرن، هل مازال الناتج الإجمالي المحلي يعطي نفس الانطباع الاقتصادي؟ بصياغة أخرى، هل مازلنا نستطيع الحكم على اقتصاد الدولة بمجرد النظر إلى هذا المؤشر؟ قد تتعدد الآراء في الإجابة على هذا السؤال، ولكنني أعتقد أن الأغلبية العظمى ستجيب بالنفي، لم يعد هذا المؤشر كافياً ــ لوحده، على الأقل ــ للحكم على المشهد الاقتصادي، لاسيما في ظل الكم الهائل للبيانات التي أصبحت متاحة لنا في الوقت الحاضر.

بسبب الارتباط المباشر بين الاقتصاد والجانب البشري أو الاجتماعي، قد لا يعكس الناتج الإجمالي المحلي معدل الرفاهية البشرية التي تنعم بها الشعوب، كمتوسط العمر المتوقع، العدالة الاجتماعية ومعدلات الفساد على سبيل المثال، فقد تتمتع إحدى الدول بناتج إجمالي محلي هائل ــ كالصين ــ مع غياب أو إنحدار الجانب الاجتماعي الذي يضمن مستوى معين من الرفاهية للشعوب. كذلك هو الحال بالنسبة للدول التي تتمتع بنصيب عالي للفرد من الناتج الإجمالي المحلي، فقد لايضمن هذا المؤشر التوزيع العادل للثروات لإنه عبارة عن معادلة رياضية بحتة لا تأخذ الفجوات أو الطبقات الاجتماعية في الحسبان.

 على ضوء ما سبق، قرأت ورقة أكاديمية كَتبها أستاذي الاقتصاد في جامعة ستانفورد تشارلز جونز وبيتر كلينو، والتي تم نشرها مؤخراً في الإصدار الأخير لمجلة أميريكان ايكينومك ريفيو ــ اضغط هنا لقراءة الورقة ــ، والتي تهدف إلى التخلي عن الناتج الإجمالي المحلي كمؤشر رئيسي والانتقال إلى مؤشر اقتصادي أشمل. بعد توظيف عدد من الفرضيات، قاما الاستاذان يإنشاء مؤشر اقتصادي يأخذ بالحسبان مستويات الرفاهية والعدالة الاجتماعية في عدد كبير من الدول حول العالم، من ضمنها دول مجلس التعاون الخليجي.

لاحظ في الصورة التالية العلاقة الشبه خطيّة بين نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي و مستوى الرفاهية للدول المختارة، بمعامل ارتباط بلغ 0.98 وهو الأمر الغير مفاجئ وإن كان الرقم كبيراً جداً:

graph2

وكذلك هو الحال بالنسبة للعلاقة بين مستويات الدخل والرفاهية، بمعامل ارتباط بلغ 0.96 كما في الصورة التالية:

graph1

لاحظ ما يحدث عند إنشاء نسبة تقوم بربط معدلات الدخل ومستويات الرفاهية، ومن ثم مقارنتها بنصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي:

graph3

لن أطيل النقاش في الورقة وسأترك المجال للمهتمين بقراءتها كاملة من الرابط أعلاه، ولكن ما أود التأكيد عليه أن هذا النقاش ليس بجديد، فلعل أكبر دعاة التخلي عن الناتج الإجمالي المحلي ــ جزئياً، على الأقل ــ هو البروفسور جوزيف ستيغلتز الحائز على نوبل الاقتصاد في عام ٢٠٠١، حيث أكد البروفسور مراراً وتكراراً على أهمية إنشاء نموذج اقتصادي جديد يقوم فعلياً باحتساب النمو الاقتصادي الحقيقي. لربما السبب الرئيسي لإثارة مثل هذه النقاشات هو المبالغة في الاعتماد على هذا المؤشر بشكل عام، سواء من قبل بعض الاقتصاديين، وكلاء الأخبار، المتداولين، أو حتى الأكاديميين، إلى درجة جعلت البعض ينسى أنه مؤشر (اقتصادي ــ صناعي) بحت لا يمت للجانب الإجتماعي بصلة، فهو بكل بساطة مرآة لصناعات البلد وفرصها التنافسية عند مقارنتها بالدول المجاورة.

 أنصح كل مهتم بالاقتصاد الكلي بالبحث الدقيق في كم البيانات الهائلة التي أصبحت في متناول اليد الآن، وخصوصاً تلك التي تعنى بالاقتصاد الكلي، فعلى سبيل المثال، توفّر منصة بلومبيرغ حالياً رزنامة مفصّلة ــ تاريخية ومستقبلية ــ لكل حدث ومؤشر اقتصادي يخص الولايات المتحدة، كالتغير في مبيعات البيوت والسيارات، وإعلانات البطالة على سبيل المثال. فربما عند دمج هذه الأخبار والمؤشرات مع بعضها البعض، نحصل على الصورة الكاملة.

 

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.