التصنيفاتالأسواق الماليةالتمويل السلوكي

هوَس الأرقام الصحيحة

عند التعامل مع الأرقام، غالباً ما يكون العقل البشري “مبرمجاً” ــ إن صح التعبير ــ على تفضيل الأرقام الصحيحة عوضاً عن الأرقام العشرية أو الكسور، ربما لبساطة التعامل مع الأرقام الصحيحة، ولكن هل يعتبر هذا القرار منطقياً؟ خصوصاً أن التداول بات إلكترونياً بالكامل، أي أن الانسان لم يعد بحاجة إلى الآلة الحاسبة كما كان الحال في السابق. بالطبع، قد يكون هذا السلوك امتداداً طبيعياً لنمط سلوكي اعتاد عليه الانسان منذ عشرات السنين، فقد اعتاد الانسان أن يقرّب قيم الأسهم والأصول إلى الأسعار التي تعكس قيمتها الحقيقية، وعند القيام بعملية التقريب، عادة ما يميل الانسان إلى الأرقام الصحيحة.

بناءاً على ذلك، من المنطقي أن نتوقع تمحور أسعار الأصول في جداول الأوامر حول الأرقام الصحيحة، بالذات الأرقام الصحيحة التي تنتهي بمضاعفات الرقم صفر ــ ١٠، ١٥٠، … إلخ ــ، مما يساهم بشكل مباشر “بتكتّل” الأسعار حول أرقام وأنماط رقمية معينة لا تحيد عنها كثيراً. ولعل أول الحالات التي تم تسجيلها لتكتّل الأسعار كانت في بورصة نيويورك سنة ١٩٦٢م، عندما كانت أسعار الإقفال تميل بشكل واضح جداً حول الأرقام الصحيحة والمضاعفات المتعارف عليها من الكسور كالنص والربع مثلاً، على رغم من سماح السوق للعديد من المضاعفات الأخرى ــ ذات الشعبية الأقل ــ كالمضاعفات التالية مثلاً: ١٢.٤٥، ٨.٦٥، ١.٣٥.. إلخ، أي أن السوق كان يسمح بجميع مضاعفات الرقم ٥ من ناحية السنتات (الأفلاس)، إلا أن أغلب المتداولين اختاروا الأرقام الصحيحة والمضاعفات المشهورة، كما ذكرت سالفاً. الجدير بالذكر أن الأسواق الأمريكية تخلّت عن مضاعفات الرقم ٥ واتجهت إلى تحرير الأسعار بشكل أكبر بحيث تتحرك بمضاعفات الرقم ١ ــ أي سنت واحد ــ في سنة ٢٠٠١. أخذت ظاهرة تكتّل الأسعار شعبية واسعة في الأوساط الأكاديمية، فقد تم دراستها وتوثيقها في العديد من الأسواق المالية حول العالم، كآثار التكتّل التي تم العثور عليها في السوق الاسترالي، والتي كانت مماثلة إلى حد كبير للسوق الأمريكي، أو كتلك التي تم دراستها في بورصة طوكيو في اليابان.

emotions

بالطبع، انتقلت هذه العدوى إلى جميع أنواع الأسواق، كأسواق السندات والسوق الآجل، ولا أحد يعرف تماماً المسبب الرئيسي لهذه السلوكيات، إلا أن المبرر الرئيسي هو الاختلال السلوكي والمغالطات الفكرية التي يقع بها المتداول، كمغالطة الرسو الذي تم التطرق إليها في مقال سابق. على سبيل المثال، وجد باحثون ظاهرة غريبة في الأسواق عندما تكون الأسعار قريبة من الأرقام الصحيحة، فعندما تكون الأرقام أعلى من الرقم الصحيح بقليل ــ ١.١٩، ٣.٠٤، … إلخ ــ تزداد أوامر الشراء بشكل واضح، والعكس صحيح تماماً عندما تكون الأسعار أقل بقليل من الرقم الصحيح ــ ٠.٨٩، ٠.٩١، … إلخ ــ، فتزداد أوامر البيع، وربما يعود ذلك إلى طبيعة طلبات الأوامر المتكدّسة حول الأرقام الصحيحة.

أخذ باحثان مفهوم التكتّل خطوة إلى الأمام وبحثوا في الدور الاجتماعي أو الثقافي ــ المتمثّل في حضارة الدولة ــ ومساهمته في تكدّس الأسعار، عندما قاما بدراسة السوق الصيني والأثر الحضاري الذي يلعبه الرقم ٨ كونه مرتبطاً بحسن الحظ في الحضارة الصينية، مما يزيد من احتمالية ظهور هذا الرقم في الأسواق الصينية، على عكس الرقم ٤ المرتبط بسوء الحظ. على الرغم من كونها خرافات ليس لها أساس علمي واضح، إلا أن لتلك الخرافات تبعات إحصائية بحتة لا يمكن التغافل عنها. كما هو متوقع، وجد الباحثان هيمنة واضحة للرقم ٨ مقارنة بباقي الأرقام ــ خصوصاً عند الإقفال ــ، وفي المقابل، كان هناك غياب شبه تام للرقم ٤، للأسباب التي تم ذكرها. المدهش في الأمر أن هذا التأثير معدوم تماماً في الأسواق الغربية كالأوروبية والأمريكية.

يبقى السؤال الأهم: ما مدى ربحية هذه السلوكيّات؟ انطلاقاً من فرضية كفاءة الأسواق، عندما يقوم جميع المستثمرون بسلوكيات تداول متشابهة، تنعدم فرص الربحية بالكامل بسبب المنافسة، وهو ما يفسّر ــ إحصائياً ــ فشل هذه الاستراتيجيات على المدى الطويل، لا سيما في ظل تطوّر خوارزميات التداول الكمّي التي لا تعترف بالعواطف والمغالطات الفكرية والسلوكية، فهي تتداول بناء على أوامر برمجية بحتة تستغل ــ بل تُعاقب ــ الهفوات السلوكية الساذجة لبعض المتداولين. بالتالي، أتوقع شخصياً انقراض هذه السلوكيات تدريجياً مع مرور الوقت، مع زيادة الهيمنة التي تفرضها روبوتات التداول يوماً بعد يوم.

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.