التصنيفاتالأسواق المالية

سرعة التداول: بين التأييد والمعارضة

أدى التطور الطبيعي للأسواق المالية ــ بجميع أنواعها ــ إلى زيادة سرعات التداول، وبالأخص عمليات التداول التي تهدف إلى المضاربة، لتصل إلى سرعات خيالية كالميلي ثانية والمايكروثانية. بالطبع، قد يتفق الأغلبية مع تطوّر الأسواق، لاسيما أن هذا التطور سيؤدي إلى زوال ــ أو على الأقل تخفيف ــ بعض العقبات التي تواجه المتداولين كشح السيولة أو ارتفاع تكاليف العمولة على سبيل المثال، ولكن يبقى السؤال الأهم، هل يخلق هذا التطور بيئة تداول عادلة بين جميع أطياف المستثمرين؟ بالطبع لا، فهناك من يتداول باستخدام أبسط الطرق كأنظمة التداول الالكترونية التقليدية سواء لأجهزة الحاسب أو الهواتف الذكية، بينما هناك من يوظّف خوارزميات شديدة التعقيد لاستغلال أمرين، أولهم بطئ شبكات الاتصال العادية، التي يستخدمها المتداول التقليدي، والأمر الآخر هو استغلال أنماط التداول لدى المستثمر التقليدي. توضح الصورة التالية سرعات تنفيذ الأوامر في الأسواق حول العالم، لأخذ فكرة عامة عن السرعات التي وصل إليها التداول اليوم، حيث يلاحظ كسر ناسداك حاجز الميلي ثانية، بسبب المنافسة الشديدة وهيمنة التداول عالي التردد بشكل كبير.

highfreq_arbitrage1

 بسبب تعدد الأسواق المالية في الولايات المتحدة، قام المشرع في سنة 2007 بإصدار قانون (سبق التطرق إليه في مقال سابق) يضمن حماية المستثمر عن طريق إجبار الوسيط المالي باختيار أفضل سعر متوفّر للسهم في جميع الأسواق على مستوى الدولة. للوهلة الأولى، يبدو هذا القانون عادلاً جداً، ولكنّه خلق العديد من المشاكل التي جعلت البعض يرى سرعة التداول بأنها نقمة وليست نعمة، وذلك بسبب قيام خوارزميات التداول العالي التردد “بسرقة” ــ إن صح التعبير ــ أوامر الشراء والبيع قبل أن يحصل عليها المستثمر التقليدي، مما يؤدي إلى حصوله على سعر أسوأ، تماماً كما في الصورة التالية، مع الأخذ بالاعتبار فارق الأسواق.

CME rip off

 بينما يرى البعض أنها عملية غير أخلاقية ــ ولو كانت قانونية ــ هناك من يبرر هذا السلوك على أنه تطور طبيعي لعمليات المضاربة، فالأصل في المضاربة هو السرعة قبل كل شيء، فمن أراد أن يضارب، عليه أن يتسلح بأعتى وسائل التداول التي تضمن الحصول على السعر المناسب في الوقت المناسب. بالإضافة إلى ذلك، يجب الأخذ بالاعتبار أن المتضرر الأكبر هو من يستخدم أوامر الشراء السوقية التي تتطلب التنفيذ الفوري للأمر، أما المتداول الذي يعتمد على طلبات دفتر الأوامر، فسيكون للأمر أخف وطأة، كون تنفيذ تلك الطلبات يعتمد بشكل أساسي على السعر الذي يحدده المتداول، وليس سعر السوق.

 ربما السبب الأكبر لكتابة مقال اليوم هو القرار الغريب والفريد من نوعه الذي أصدرته هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بالسماح لأول سوق تداول بتخفيض سرعة التداول عن طريق فرض موجة تأخير بمثابة “مطب صناعي” لجميع عمليات التداول، بحيث يقوم هذا السوق بتأخير جميع طلبات البيع والشراء بمعدل 350 ميلي ثانية، أي ما يعادل 0.350 ثانية، وذلك لتخفيف وطأة التداول العالي التردد بأكبر قدر ممكن. أدى هذا القرار إلى انقسام وول ستريت ما بين مؤيد ومعارض، حيث اعتبره البعض انتصار للمتداولين البشر على “روبوتات” التداول عالي التردد، بينما اعتبره البعض الآخر تقييد للأسواق التي يجب أن تكون حرة بالكامل، بحيث تؤدي تلك الحرية إلى احتدام المنافسة، وبالتالي تهيئة ظروف تداول أفضل.

 الجدير بالذكر أن هذا السوق هو “آي إي اكس” الذي أسسه براد كاتسوياما، بطل الكتاب المثير للجدل “فلاش بويز” والذي يتحدث عن “أهوال” التداول عالي التردد وضحاياه في الأسواق المالية الأمريكية. إذاً، منذ أن أعطت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية الضوء الأخضر لهذا السوق، أصبح الآن السوق الثالث عشر في الولايات المتحدة، والأول الذي يقوم بفرض ضوابط سرعة في تاريخ الأسواق المالية، مما أدى إلى موجة من النقد اللاذع التي وصلت إلى التهديد برفع دعاوى قضائية، لعل أبرزها كان تصريح إدارة سوق ناسداك، والتي اتهمت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية بخلق بيئة تداول غير عادلة، لا تعطي المتداول حق تنفيذ الصفقات فورياً. لعل السؤال الذي قد يطرحه البعض: لماذا لا يختار المتداولون ــ لا سيما أصحاب التداول عالي التردد ــ عدم التداول في “آي أي اكس”؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في قانون 2007 الذي يجبر جميع المتداولين والوسطاء بأفضل الأسعار الموجودة بالسوق، والتي قد تكون ــ لسوء حظّهم ربما ــ موجودة في سوق “آي إي أكس” فقط.

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.