التصنيفاتالاقتصاد

الأثر الاقتصادي للتدخل الحكومي

يحذر الكثير من علماء الاقتصاد من التدخل الحكومي المباشر في عجلة الاقتصاد ــ خصوصاً في أوقات الرخاء ــ، مشددين على ضرورة ترك زمام الأمور للقوى السوقية ــ اليد الخفية ــ وقوى العرض والطلب، وبالذات في الدول التي تتمتع بدرجة عالية من الانفتاح الاقتصادي. الجدير بالذكر أن هذا المفهوم ليس بالجديد، فقد تحدث آدم سميث كثيراً عن ضرورة تقليل التدخل الحكومي في الاقتصاد الداخلي للدول، عن طريق مفارقة بسيطة جداً، لماذا تصر أغلب حدائق الحيوانات المفتوحة على ضرورة عدم إطعام الحيوانات حتى وإن كان الطعام صحيّاً أو مفيداً لتلك الحيوانات؟ لسبب بسيط، إطعام الحيوانات وخصوصاً في الغابات المفتوحة سيؤدي على المدى الطويل إلى الإخلال في عملية الحصول على الطعام، لأن الحيوان بكل بساطة سيترك عملية الصيد والبحث عن الطعام وسيتجه مباشرة إلى أسوار الحديقة للحصول على الطعام، فالحل الأخير أسهل بكثير من عناء البحث والصيد. لا أقصد بهذه المفارقة الربط بين البشر والحيوانات أبداً، فقد كرّم الله الإنسان، ولكننا نستطيع إسقاط الفكرة اقتصادياً على البشر، إذا تدخلت الحكومة بشكل يخل بالإطار العام للتنافسية والاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية، فإن الآثار الاقتصادية ستصبح كارثية على المدى الطويل، لإنها ستؤدي إلى هيكل اقتصادي مترهل لا تتحرك عجلته إلى بمساعدة حكومية، لن أتطرق في هذا المقال إلى التدخل الحكومي في الأسواق المالية، وذلك لانعكاساته الضئيلة اجتماعياً مقارنة بالتدخل الحكومي المباشر والذي قد يصاحبه تغيير مباشر في معدلات الطلب الكلي.

 للتوضيح، لا أقصد في التدخل الحكومي القوانين والتشريعات التي تضعها الحكومات لتنظيم الاقتصاد كقوانين مكافحة الاحتكار وتنظيم الأسواق المالية على سبيل المثال، بل أقصد التدخل الحكومي الذي قد يؤدي ــ بشكل مباشر أو غير مباشر ــ بالإخلال بالمنافسة وأسعار الأصول. ولعل أحد أشهر الأمثلة على ذلك هي حزم الإنقاذ الاقتصادي التي توفرها أغلب حكومات العالم، ففي الولايات المتحدة وإبان الأزمة المالية العالمية في سنة 2008، أطلقت الحكومة الأمريكية حزمة إنقاذ تريليونيه لانتشال القطاع المصرفي الأمريكي وحماية الاقتصاد من الانهيار، تحت المسمى الشهير الذي يرمز إلى الأثر الاقتصادي الكارثي لإفلاس البنوك والشركات كبيرة الحجم، ولكن لهذا التدخل عدة مثالب اقتصادية. أولاً، ماهي الآلية التي تم على ضوئها اختيار البنوك التي سيتم إنقاذها؟ ولماذا تم إنقاذ عملاق التأمين اي آي جي وترك ليمان برذرز للإفلاس؟ بالطبع، يؤدي هذا النوع من عمليات الإنقاذ الحكومي إلى خلق مشاكل من نوع آخر، فعندما تضمن البنوك والشركات العملاقة وجود طوق الإنقاذ الحكومي، ستقوم بتجرّع المزيد من المخاطر في الاستثمار، طمعاً في عوائد أعلى، لذلك، أعتقد شخصياً أن التدخل الحكومي في 2008 كان ضرورياً، ولكنه لم يأت في الوقت المناسب، فقد كان من الأجدر التدخل مع بداية تضخم قروض الرهن العقاري عن طريق سن التشريعات التي تنظم بشكل واضح كيفية توريق هذه القروض أو الحد منها على الأقل. وكذلك هو الحال بالنسبة للدول التي تهيمن السياسات المالية على اقتصادها الداخلي، فقد يؤدي الإنفاق الحكومي إلى اختلال هيكلي في التوزيع الأمثل لرؤوس الأموال، وخصوصاً في الدول التي تعاني من معدلات عالية من الفساد المالي والإداري، ففي هذه الدول، يتزايد الاختلال في التوزيع العادل للثروات بشكل مباشر مع زيادة معدلات الإنفاق الحكومي. وأخيراً، طريق الإنقاذ الاقتصادي الحكومي شائك جداً، فالواضح جداً من تجارب أغلب الدول أن حزم الإنقاذ الاقتصادي التي توفرها الحكومات قد تؤدي إلى أحد الأمرين: تضخم اقتصادي على المدى القصير، أو تضخم الدين الحكومي على المدى الطويل، ولعل الأمرين مرتبطين بشكل مباشر بخطر الكساد الاقتصادي إن لم يرافق برامج الإنقاذ الحكومي آثاراً مباشرة على معدلات الطلب الكلي في الاقتصاد الداخلي للدولة.

 إذاً، متى يجب أن تتدخل الحكومات اقتصادياً؟ علاوة على مكافحة الاحتكار ونشر العدالة الاقتصادية في المجتمع، يجب أن تتدخل الحكومات مباشرة في الدعامات الأساسية لأي مجتمع ــ التعليم، الصحة، والغذاء ــ حتى لا تتحول هذه الدعامات إلى مادة اقتصادية بحتة تسيطر الأرباح عليها بشكل أساسي، كما يجب أن تتدخل الحكومات بشكل مباشر عند وصول مؤشرات الاقتصاد الكلي إلى معدلات معينة تبرر التدخل الحكومي، كالتضخم المفرط أو ازدياد معدلات البطالة بشكل يهدد الأمن الاجتماعي. عدا ذلك، ومن وجهة نظر شخصية، سيأخذ الاقتصاد منحنى ميكانيكي يقوّم نفسه بنفسه، شريطة أن يتم تأسيس الاقتصاد الداخلي للدولة بناء على مجموعة تشريعات وقوانين تضمن الصالح العام والعدالة الاجتماعية.

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.