التصنيفاتالاقتصاد

نظام الدخل الأساسي

يتحدث الكثير ــ وخصوصاً هذه الأيام بالتزامن مع ملتقى دافوس في سويسرا ــ عن التوزيع العادل للثروات، فعلى سبيل المثال، ذكرت مؤسسة الإغاثة العالمية أوكسفام إحصائية تشير إلى الاختلال الصارخ في توزيع الثروات عالمياً حيث يملك 8 أغنى أشخاص في العالم ثروة نصف سكان الكرة الأرضية ــ 3.6 مليار شخص ــ لو تم توزيعها بالتساوي. على كل حال، تتعدد الآراء حول الأحقية في  توزيع الثروات من شخص إلى آخر، ولكن، قد يلاحظ المتابع للساحة الاقتصادية اليوم الزخم الذي بدأ ينتشر حول مفهوم الدخل الأساسي كطريقة جذرية لحل مشكلة التوزيع الغير عادل للثروات حول العالم.

تحتّم النظم الاقتصادية القائمة في العديد من الدول حول العالم على الفرد ضرورة العمل مقابل الحصول على مردود مادي، سواء كان في صورة أجر شهري يتقاضاه كموظف في القطاع الخاص أو الحكومي، أو في صورة أرباح يجنيها الفرد من الأعمال الحرّة والمشروعات، ولعل المصدر الأول ــ الوظيفة ــ أكثر شيوعاً من المصدر الثاني، لمبررات وعوامل عديدة مثل بيئة الأعمال الداخلية والثروات الطبيعية للدول. لذلك، يتكدّس الكثير من الأفراد ــ خصوصاُ في الدول الغير متقدمة اقتصادياً ــ في القطاع الحكومي لأسباب بديهية مثل الأمان الوظيفي، مما يؤدي إلى ضياع العديد من الموارد البشرية في المجتمع والتي كان بالإمكان استغلالها استغلالاً أكثر كفاءة، فانطلاقاً من مبدأ آدم سميث الشهير ــ التخصص يحفّز الكفاءة ــ، لو اختار كل شخص أن يعمل في المجالات التي يتميّز بها، لزادت الانتاجية في المجتمع بشكل ملحوظ، فلا تجد الترهل في القطاعات الحكومية، ولا تجد الطاقات الشبابية تُهدر في مجالات لا تستطيع أن تبدع بها.

مفهوم الدخل الأساسي ليس بالمفهوم الجديد ولا هو منافي للمنطق، فعلى سبيل المثال، أنشأت ولاية ألاسكا في سنة 1976 صندوقاً حكومياً ــ على مستوى الولاية ــ يقوم بتوزيع الإيرادات النفطية على سكان الولاية بالتساوي بمعدل سنوي، بحيث تتغير هذه التوزيعات بتغير أسعار النفط عالمياً، وهو ما يعتبر تطبيقاً حرفياً لمفهوم الدخل الأساسي، لأن تلك التوزيعات تعتبر إيراداً مضموناً لسكان الولاية، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو مستوى الدخل للفرد، فالجميع يحصل عليها لمجرد كونه أحد سكّان هذه الولاية. ولكن، ظهر مفهوم الدخل الأساسي بشكل واضح أكثر في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ليحل جزء من مشاكل توزيع الثروات والموارد، فهو عبارة عن مبلغ مالي معيّن يتم توزيعه بآلية معيّنة ــ على حسب البيئة الاقتصادية الدولة ــ دون أية شروط، بصورة شهرية ولمدة سنة واحدة في الغالب. فعلى سبيل المثال، أطلقت فنلندا قبل عدة أسابيع برنامجها التجريبي للدخل الأساسي، والذي يمتد لسنتين، حيث تقوم الحكومة بمنح 560 يورو شهرياً ودون أية شروط أو ضوابط لكل مواطن عاطل عن العمل في الفئة العمرية بين الـ25 والـ58 سنة، كتجربة اجتماعية/اقتصادية لحل مشكلة الفقر وتقليل معدلات البطالة مؤقتاً. قد يبدو الموضوع منافي للمنطق الاقتصادي الذي يقضي بخطورة المنح النقدية التي قد تخلق آثاراً تضخمية، ولكن المبرر يقع في الهدف الأسمى لتجربة الدخل الأساسي، وهي الدفع بالمزيد من الأعمال الحرة والمشاريع الصغيرة، فعندما يقوم الفنلنديون باستغلال هذه المبالغ الزهيدة نسبياً للبدء في مشاريعهم الخاصة، سينعكس ذلك إيجاباً على الاقتصاد الداخلي للدولة عن طريق خلق المزيد من الوظائف وزيادة الكفاءة البشرية داخلياً، خصوصاً إذا اختار كل فرد أن يعمل في المجالات التي يهواها ويفقه بها. لم تكن فنلندا الوحيدة في خوض هذه التجربة، فقد قامت العديد من الدول أيضاً بتجارب مماثلة، خصوصاً بعد نتائج الاستفتاءات التي تشير بشكل واضح إلى تقبّل الشعوب الغربية لهذه الفكرة، فقد صوّت 68% من سكان دول الاتحاد الأوروبي ــ 28 دولة ــ بالموافقة على برامج الدخل الأساسي فيما لو قررت حكوماتها خوض هذه التجربة. ولعلنا في الكويت أيضاً نمتلك تجربة مشابهة ــ إلى حد ما ــ لبرامج الدخل الأساسي، حيث يقوم برنامج إعادة هيكلة القوى العاملة بتوزيع “دعم العمالة” على موظفي القطاع الخاص دون التفرقة بين جهات العمل، فهو يعتبر دخلاً أساسياً ثابتاً يُصرف للموظف بناءاً على الشهادة التي يحملها الموظف، بغض النظر عن جهة التوظيف.

لعل المعضلة الكبرى في نظم الدخل الأساسي تقع في أمرين: كيف يمكن للحكومة أن تحقق الجدوى الاقتصادية من برامج الدخل الأساسي؟ وما الذي يضمن للحكومة عدم استغلال هذا الدخل الثابت في أمور قد لا تصب بالنفع لاقتصاد الدولة؟ لعل الإجابة على السؤال الأول تكمن في إراحة كاهل الدولة من الرواتب العالية ــ والتي قد تكون غير مبررة في بعض الأحيان ــ، خصوصاً في الجهات الحكومية التي تعاني من تكدّس الموظفين، فعن طريق “تحرير” القوى العاملة الحكومية، يُمكن لبرامج الدخل الأساسي أن توفّر على الدولة أجور الموظفين، كما يمكن لها أيضاً أن تخلق بيئة خصبة للمشروعات الصغيرة فيما لو حسنّت الحكومة من بيئة الأعمال داخل الدولة. أما بالنسبة للسؤال الثاني، لا يمكن للحكومة أن تتحكم بكيفية صرف البشر لأموالهم، ولكنها تستطيع تهذيب أنماط الصرف بشكل غير مباشر عن طريق تقليل رواتب الدخل الأساسي لتغطّي الاحتياجات الأساسية فقط، أو عن طريق إقرار ضريبة خاصة لبرامج الدخل الأساسي، بشكل يحتّم على المستفيد من الدخل الأساسي أن يستثمر تلك الأموال بطريقة تضمن عدم فقدانه لها على المدى الطويل بسبب الضرائب. لذلك، يصعب على الدول الفقيرة تطبيق برامج الدخل الأساسي، وهو الذي يعتبر أحد العيوب الهيكلية في برامج الدخل الأساسي، مما يخلق عائقاً كبيراً لحلم الكثير من الاقتصاديين حول العالم بإنشاء برنامج دخل أساسي عالمي.

يرى البعض أيضاً أن برامج دخل الأساسي أصبحت حتمية خصوصاً مع الفقدان التدريجي للوظائف البشرية بعد ظهور برامج وروبوتات الذكاء الاصطناعي التي غزت شتى المجالات ودمّرت العديد من الوظائف ــ خصوصاً تلك المتعلقة بالعمالة الماهرة ــ، ويختصر الانفوجرافيك التالي العديد من النقاط في هذا الصدد، فهناك تقريباً 5 روبوتات لكل مئة عامل في كوريا و 3 روبوتات لكل مئة عامل في اليابان، وهي أرقام قد لا تبدو مخيفة، ولكن الحجم الحقيقي للمشكلة يبدأ بالظهور جلياً عندما يتم تعميم هذه الأرقام على مستوى الدولة من ناحية السكان. على مستوى الوطن العربي، كانت دبي سبّاقة في نشر مفهوم الدخل الأساسي عن طريق مرصد دبي للمستقبل، حيث قامت بترجمة الانفوجرافيك السابق، كما شرحت مفهوم الدخل الأساسي العالمي بشكل موجز في هذا المقال.

أنصح كل مهتم بمفهوم الدخل الأساسي بمشاهدة الفيلم الوثائقي التالي الذي يشرح تجربة أحد المبادرين الألمان بتطبيق فكرة الدخل الأساسي لخلق نوع من العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات:

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.