التصنيفاتالاقتصاد

أسوأ حالات التضخم تاريخياً: هنغاريا

تشدّني دائماً حالات التضخم الاقتصادي المفرط لأنها تغير مفاهيم اقتصادية عديدة، قد يكون مسلّم بها في الظروف الاقتصادية الطبيعية، وخصوصاً تلك المفاهيم المتعلقة بخاصية النقد كأداة لحفظ القيمة، فقد شاهدنا الكثير من الصور التي قامت بنسف هذا المفهوم بالكامل، كالصور التاريخية الشهيرة لألمانيا وهنغاريا إبان الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال. ولعل هذا المقال بداية سلسلة مقالات مستقبلية عن أسوأ حالات التضخم في تاريخ البشرية.

hanke-20080721-1

 في تلك الحقبة من الزمن ــ أربعينيات القرن الماضي ــ، اجتاحت العديد من الدول موجة من التضخم المفرط، بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها الاقتصادية على تلك الدول، ولعل المثال الأكبر الذي أود التطرق إليه اليوم هو هنغاريا ــ أو المجر ــ، والتي تم تصنيفها كأسوأ أزمة تضخم اقتصادي في تاريخ البشرية. تاريخياً، لم تكن المجر في معزل عن موجات التضخم، فقد خسرت هنغاريا الحرب العالمية الأولى، مما انعكس سلبياً على اقتصادها، عن طريق زيادة معدلات التضخم، حيث لجأت الحكومة الهنغارية آنذاك إلى طباعة النقد، وهو الذي يعتبر جريمة اقتصادية إن لم يتم بالشكل الصحيح وذلك لآثاره الكارثية على الاقتصاد الداخلي. على سبيل المثال، كان الدولار الأمريكي الواحد يعادل خمسة من الكرونن ــ عملة هنغاريا آنذاك ــ قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن سرعان ما خسر الكرونن قيمته بعد الحرب العالمية الأولى، ليعادل الدولار الواحد 70,000 كرونن، أي أن قيمة الدولار تضاعفت 14,000 مرة مقابل الكرونن خلال سنوات قليلة. لذلك، قامت الدولة بالاستغناء عن عملتها والتحول إلى عملة أخرى، وهي البينجو، في سنة 1926. على الرغم من ذلك، لم تكن تعلم هنغاريا آنذاك أن هذه الأزمة لن تكن الأسوأ في تاريخها.

 في سنة 1944، تحولت هنغاريا إلى ساحة حرب بين ألمانيا وروسيا، فقد تم تدمير أغلب المصانع ووسائل النقل آنذاك، مما أدى إلى انخفاض معدلات الإنتاج حتى أصبحت شبه معدومة، وهو الذي بدأ ينعكس على مستوى الأسعار تدريجياً، حيث أخذت بالارتفاع يوماً بعد يوم. بسبب غياب الضريبة في الدولة، لم تكن تمتلك الحكومة الهنغارية آنذاك العديد من الخيارات، فقررت اللجوء إلى طباعة النقود وتوزيعها على البنوك بمعدلات فوائد شبه صفرية، لتقوم البنوك بإقراضها للشركات والأفراد وذلك لتحفيز الاقتصاد، أصبح الموضوع أشبه بفيضان أغرق هنغاريا بالأوراق النقدية، مما دفع معدلات التضخم إلى أرقام فلكية، بسبب الزيادة المفرطة في عرض النقد، ولا أعتقد أن كلمة “مفرطة” تكفي لوصف الوضع الاقتصادي آنذاك، فقد كان عرض النقد في يوليو 1945 لا يتجاوز الـ 25 مليار بينجو، ولكن في يناير 1946 فقز هذا الرقم إلى 1.6 تريليون، وصعد بعد ذلك إلى 65 كوادريليون ــ أي مليون مليار ــ في مايو 1946، قبل أن ينفجر إلى 47 سيبتيليون ــ تريليون التريليون ــ في يوليو 1946، وهي أرقام فلكية جداً قد لا يستطيع الانسان استيعابها.

hungary1

 بديهياً، كان يقابل تلك الزيادة في عرض النقد فقزات مخيفة لمعدلات التضخم، ففي ذروة الأزمة، بلغ معدل التضخم اليومي 150,000%، أي أن الأسعار كانت تتضاعف 150 مرة يومياً، بمعدل 6 أضعاف في الساعة الواحدة تقريباً. حاولت الحكومة الهنغارية جاهدة آنذاك حل الأزمة بعدة طرق، ولكنها جميعاً باءت بالفشل، حيث قامت الحكومة بطرح عملة جديدة أكثر من مرة لتحل محل العملة القديمة، ولكن سرعان ما خضعت العملات الجديدة إلى معدلات التضخم الخرافية، فعلى سبيل المثال، كانت أعلى فئة نقدية آنذاك مليون تريليون بينجو، والتي كانت لا تتعدى قيمتها الـ 0.12 دولار أمريكي، أي 12 سنت فقط. لم يتم انتشال الاقتصاد الهنغاري إلا عندما تم طرح آخر العملات الهنغارية وهي الفورنت ــ والتي يعمل بها حتى يومنا هذا ــ في أغسطس سنة 1946، حيث أدى طرح هذه العملة إلى إلغاء العديد من أصفار العملة القديمة، حيث كان الفورنت الواحد يعادل 400,000 كوادريليون ــ مليون مليار ــ بينجو، والذي ساهم بشكل كبير جداً بثبات مستويات الأسعار داخلياً. في تلك الأوقات، قام عدد كبير من الشعب بالتخلص من البينجو لأنه ببساطة أصبح عديم القديمة، فالصورة التالية تبيّن أوراق البينجو مرمية في شوارع هنغاريا:

hungary2

 بالطبع، كانت الطبقة العاملة هي المتضرر الأكبر من موجة التضخم، حيث فقدت الطبقة العاملة أكثر من 80% من قيمة الأجور والرواتب، وهو الذي ينسف المفهوم الاقتصادي الذي يؤصّل العلاقة الطردية بين معدلات التضخم ومستويات الانتاج، ففي الأوقات الطبيعية، يعتبر معدل التضخم الصحي مؤشراً جيداً للاقتصاد الداخلي للدولة فهو يحفّز القطاع الخاص ويدفع بمعدلات الانتاج، أما أذا وصل التضخم إلى معدلات مفرطة، ستنقلب الموازين، كما حدث في هنغاريا.

 تاريخياً، عانت الكثير من الدول من معدلات تضخم فلكية، كزيمبابوي، يوغوسلافيا، ألمانيا، وغيرها من الدول، فكما ذكرت في مطلع المقال، قد يتم تناول تلك الدول في مقالات مستقبلية. ولكن، ربما المثال الحي الذي نعيشه اليوم، هو فنزويلا، والتي تعاني من جرائم اقتصادية رهيبة يتجرعها الشعب الفنزويلي يومياً، بسبب معدلات التضخم المفرطة التي وصلت إليها فنزويلا اليوم، فجميع المؤشرات الاقتصادية تشير إلى دخول فنزويلا في نفق التضخم المفرط، ولا أحد يعلم كيف ومتى ستخرج فنزويلا من هذا النفق.

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.