التصنيفاتالأسواق المالية

آلية اكتشاف الأسعار

للمعلومات ثمن، فالمحرك الأساسي لأسعار السلع في الأسواق هي المعلومات بمختلف أنواعها، فهناك علاقة طردية واضحة بين كمية المعلومات وكمية التغير في أسعار السلع، أي أن حتى غياب أو شح المعلومات يعتبر بحد ذاته معلومة ــ إن صح التعبير ــ تعطي دلالة على غياب الشفافية لسلعة أو خدمة معيّنة، مما يرسل للمستخدمين إشارات معينة تؤثر بقرارات البيع والشراء. ينص المنطق على أن ظهور المزيد من المعلومات يدفع بأسعار السلع والخدمات إلى مستوياتها الحقيقية التي تعكس القيمة الفعلية أو السعر الحقيقي لهذا المنتج، وهي القيمة العادلة التي تتساوى عندها قوى العرض والطلب، لحظياً على الأقل.

 قبل عقود من الزمن، وخاصة قبل ظهور الانترنت والتوسّع في التجارة الالكترونية، كانت قلة المعلومات سبب من أسباب ربحية العديد من الشركات، بمختلف الصناعات التي قد تنتمي إليها. لعل أبسط مثال على ذلك هو المواقع الالكترونية اليوم التي توفر قواعد بيانات لمقارنة السلع، كأشهر المواقع السياحية التي توفر أسعار تذاكر الطيران وأسعار الفنادق. بالطبع، هذه المواقع لا تقدم أية سلعة ملموسة ولكنها فعلياً تقوم ببيع المعلومات ــ وهي الأسعار ــ للمستهلكين، مما يرفع الغمام عن الكثير من الأمور التي قد يجهلها المستهلك، ويزيد معدلات المنافسة بشكل كبير جداً، بحيث تكون المحصلة النهائية انخفاض ملاحظ في أسعار السلع والخدمات. ينطبق هذا المفهوم على أغلب الصناعات التقليدية التي تقدم خدمات وسلع استهلاكية، ولكن، متى يؤدي ظهور المزيد من المعلومات إلى ارتفاع أسعار السلع؟ عندما يتم تداول هذه السلع في سوق من الأسواق المالية، وهو ما يشكّل الجذور الأولى لمفهوم أكاديمي وعملي شهير، يعرف بألية اكتشاف الأسعار. يمكن النظر لهذه الآلية كامتداد عملي لفرضية كفاءة الأسواق، والتي تنص على ضرورة انعكاس المعلومات في أسعار الأوراق المالية، حتى يمكننا وصف السوق المالي بأنه سوق كفؤ.

 إذاً، من ناحية المبدأ، المعلومات بمختلف أنواعها هي المحفّز الأساسي لاتخاذ قرارات البيع والشراء في الأسواق المالية، كما ذكرت في مطلع المقال. التركيبة الجزئية للأسواق ــ وخصوصاً تلك المبنية على جداول الأوامر، عوضاً عن نظام صنّاع السوق ــ تحتّم على المتداولين الإفصاح عن توقعاتهم بشكل مباشر عن طريق أوامر البيع والشراء، بحيث تحرّك هذه التوقعات أسعار الأوراق المالية، دافعةً بها نحو قيمتها الحقيقية. في المقابل، الامتناع عن التداول، يدفع بسعر الأوراق المالية بعيداً عن القيمة الحقيقية، وهو ما يفسّر التغيّر الدائم لأسعار الأوراق المالية ذات السيولة العالية، فهناك علاقة طردية بين سيولة الورقة المالية، وقربها من قيمتها الحقيقية التي تعكس القيمة الفعلية لها. الحديث عن السيولة غالباً يصب في أحد الأمرين، إما الأوامر الكبيرة الحجم التي تؤدي بشكل رئيسي إلى تغيّر السعر ــ أعلى عند الشراء أو أقل عند البيع ــ، أو ظهور عدد هائل من الأوامر، لتملأ جدول الأوامر بشكل مضطرد سواء من ناحية البيع أو الشراء.

 تحسنّت آلية اكتشاف الأسعار في الأسواق العالمية اليوم بشكل ملاحظ جداً، ويرجع ذلك إلى هيمنة التداول عالي التردد في الأسواق العالمية اليوم، حيث يسيطر على ما لا يقل عن 60-70% من كمية التداول اليومي في الأسواق الأمريكية. تم إثبات هذا الادعاء أكاديمياً عن طريق الورقة الأكاديمية التي نشرت في احد أعرق المجلات الأكاديمية الخاصة بتخصص التمويل، والملفت للنظر أن هذه الورقة تعتبر أحد أول الأوراق التي شقّت الطريق للبحث ــ أكاديمياً ــ في عالم التداول عالي التردد، والذي غالباً ما ينتهي بالفشل بسبب الشح الشديد لبيانات شركات التداول عالي تردد، وربما أيضاً بسبب الحجم الهائل لتلك البيانات، التي وصلت إلى أكثر من ألف تيرابايت. باستخدام بيانات تذهب إلى الميلي ثانية ــ أي ألف جزء من الثانية ــ، تم دراسة سوق ناسداك لفترة سنة، ووُجد تأثير مباشر للتداول عالي التردد على آلية اكتشاف الأسعار، بحيث يتم هذا التحسن عن طريق تداول روبوتات التداول عالي التردد باتجاه الأسعار طردياً في الأيام العادية، وعكسياً في الأيام المتذبذبة، أي باتجاه معلومات السوق بشكل مباشر، وهو ما يدفع بمستويات الأسعار نحو قيمتها العادلة أو الحقيقية. بسبب العدد الهائل للصفقات التي تقوم بها روبوتات التداول عالي تردد ــ آلاف الصفقات في الثانية الواحدة ــ، تقوم تلك الروبوتات بتزويد السوق بالسيولة الكافية على المدى القصير، عن طريق استيفاء أوامر السوق سواء من ناحية البيع والشراء. ولكن، يجب أن ننوه هنا أن تلك الروبوتات لا تقم بذلك بسبب حرصها على مصلحة المتداولين، بل العكس تماماً، فقد تم برمجة تلك الروبوتات لاستغلال سذاجة المستثمر البسيط، حيث تهيمن تلك الروبوتات على عمليات البيع بشكل رئيسي ولا تقم بأي عمليات شراء إلا إذا كانت تمتلك معلومات معينة لا يعرفها المستثمر الآخر، بمعنى آخر، على الرغم من تحسينها لآلية اكتشاف الأسعار، تعرض روبوتات التداول عالي التردد المستثمر التقليدي لما يعرف اقتصادياً بـ”مشكلة الاختيار الخاطئ (الخطر)“، وهو ما يحدث عندما يمتلك أحد أطراف الصفقة معلومات أكثر من تلك التي يمتلكها الطرف الآخر.

 لعل المشكلة الأكبر هي طبيعة تحركات الأسعار، في السابق كانت تتحرك أسعار الأوراق المالية بشكل أساسي بسبب ظهور الأخبار، أما اليوم، بسبب خوارزميات التداول ــ بمختلف أنواعها ــ، أصبحت الأسعار تتحرك لأسباب غير منطقية. على سبيل المثال، يركز التداول عالي التردد بشكل أساسي على اختلالات التوازن في جدول الأوامر، وهو مفهوم إحصائي بحت، بالتالي قد يغيّر الأسعار لأسباب غير اقتصادية، وهو ما يضرب فرضية كفاءة الأسواق بشكل واضح، فلم تعد أسعار الأوراق المالية تعكس الأخبار والمعلومات الخاصة بالشركات والاقتصاد بشكل عام، بل أصبحت تعكس أسباباً برمجية وفنية أخرى لا يفقهها المتداول البسيط والتقليدي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لروبوتات التداول عالي التردد أن تسحب سيولتها بالكامل خلال أجزاء من الثانية، وهو الذي يساهم أيضاً بهدم آلية اكتشاف الأسعار بشكل مضطرد لأن الأسعار سوف تهبط دون سبب اقتصادي أو منطقي.

 في الكويت، لازال هناك الكثير من التحديات التي تواجه سوق الكويت للأوراق المالية لتحسين آلية اكتشاف الأسعار، ولعل أبرز هذه التحديات هو الكشف عن جدول الأوامر بشكل لحظي أسوة بمنصّات التداول العالمية، بالإضافة إلى توفير بيانات عالية التردد تمكّن المتداول اليومي من خلق قواعد بيانات تحلل متغيرات التركيبة الجزئية للسوق والأنماط التي تتكرر على المدى القصير جداً.

نُشرت بواسطة عبدالرحمن الفرهود

عضو هيئة التدريس في كلية الدراسات التجارية، وطالب دكتوراه حالياً في جامعة مانشستر، بعيداً عن الدراسه والعمل، أتداول في سوق الأسهم الأمريكي وسوق العملات الرقمية.